مقالات

حين تصبح الجغرافيا قرارًا: أرض الصومال في صراع الأحلاف بالبحر الأحمر

  د. عبدالناصر سلم حامد –كبير الباحثين ومدير برنامج السودان وشرق أفريقيا – فوكس السويد
باحث أول في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب.

الراصد الإثيوبي -السويد

الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 

في زمن الممرات، لم تعد الجغرافيا معطًى ثابتًا تُحدّده الخرائط، بل قرارًا سياديًا يتخذه الأقوى، أو يُنتزع ممن لا يحسن حمايته. في هذا السياق المتحوّل، لم يعد البحر الأحمر مجرد شريط مائي يصل المتوسط بالمحيط الهندي عبر قناة السويس وباب المندب، بل تحوّل إلى فضاء تنافسي مركّب تتداخل فيه القوة الصلبة مع أدوات الاقتصاد والسياسة وإدارة المخاطر. لم تعد السيطرة تعني التمركز الكثيف أو الحضور العسكري الصاخب، بل امتلاك القدرة على الوصول، والتحكم في الزمن، وإدارة المفاجأة.

في البحر الأحمر اليوم، لا تتصارع الدول على الخرائط بقدر ما تتصارع على من يمتلك القرار. فالتفوّق لم يعد يُقاس بحجم الانتشار أو عدد القواعد، بل بالقدرة على التحكم في التوقيت، وامتلاك الإنذار المبكر، وتقليص عنصر المفاجأة.

من هنا لا يبدو الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال حدثًا دبلوماسيًا معزولًا أو إجراءً رمزيًا، بل إشارة كثيفة الدلالة إلى تحوّل أعمق في كيفية إدارة النفوذ؛ من السيادة بوصفها سيطرة ترابية صلبة، إلى ما يمكن تسميته بالسيادة الوظيفية بالوصول، أي امتلاك القدرة العملية على أداء وظائف السيادة الأساسية—الوصول، الردع، والضبط—حتى في غياب اعتراف قانوني مكتمل.
ولا يعني ذلك افتراض مخطط واحد مُحكم بقدر ما يعكس تقاطع مصالح يعمل بمنطق النتائج لا النوايا.

في زمن الممرات، لم تعد الجغرافيا معطًى ثابتًا تُحدّده الخرائط، بل قرارًا سياديًا يتخذه الأقوى، أو يُنتزع ممن لا يحسن حمايته

هذا التحول يفسّر انتقال البحر الأحمر وخليج عدن من مجرد ممرين للتجارة العالمية إلى نظام نفوذ متكامل، تتقاطع فيه أمننة الملاحة مع الهندسة السياسية للدول المشاطئة، ومع اقتصاديات الشحن والتأمين.

ففي مسرح الممرات، لا تعمل القوة بمنطق الاحتلال التقليدي، بل بمنطق التحكم في المخاطر والهشاشة المُدارة: رفعها أو خفضها، توسيعها أو احتواؤها، ثم توظيفها سياسيًا واقتصاديًا داخل الأسواق العالمية. هنا يصبح “الاستقرار” نفسه متغيرًا قابلًا للإدارة والمقايضة، لا قيمة مطلقة أو حالة دائمة.

في مثل هذا السياق، يتحول الاستقرار إلى سلعة سياسية. من يضمن الاستقرار يمتلك مفاتيح المرور، ومن يضبط المرور يمتلك أدوات الضغط. لذلك لا تتشكّل الأحلاف الجديدة على أساس القرب الأيديولوجي، بل وفق منطق المصلحة القابلة للتبادل، وإدراك مشترك لمصادر التهديد المحتملة. ويتسارع هذا المنطق كلما تراجع الضامن التقليدي أو انشغلت القوى الكبرى بملفات أخرى، فتتقدم قوى إقليمية لملء الفراغ، بالأصالة أو عبر وكلاء، ضمن مقاربات تفضّل التنظيم الصامت والتوقيت الدقيق على الاستعراض العلني.

لا يبدو الاعتراف الإسرائيلي بأرض الصومال حدثًا دبلوماسيًا معزولًا أو إجراءً رمزيًا، بل إشارة كثيفة الدلالة إلى تحوّل أعمق في كيفية إدارة النفوذ

منذ انفصالها عن الصومال عام 1991، عاشت أرض الصومال وضعًا رماديًا: كيان قائم بحكم الأمر الواقع بلا اعتراف دولي، لكنه نجح نسبيًا في بناء مؤسسات إدارية وأجهزة أمنية أكثر تماسكا مقارنة بمحيطه. هذا التناقض بين غياب الشرعية القانونية ووجود الاستقرار العملي أفرز نموذجًا يمكن وصفه بالسيادة الوظيفية، حيث تُقاس الدولة بقدرتها على الأداء والضبط، لا بشرعيتها الشكلية وحدها.
بالنسبة لإسرائيل، لا يُقرأ الاعتراف من زاوية تقرير المصير، بل ضمن مراجعة شاملة لمحيطها البحري. فالتوترات الأخيرة أعادت مركزية البحر الأحمر إلى الحسابات الأمنية، مع تصاعد تهديدات الملاحة وازدياد أدوار الفاعلين غير الدولتيين.

وبما أن التجارة البحرية تمثّل شريانًا حيويًا لأمن الطاقة والاقتصاد، فإن أي اضطراب طويل الأمد في هذا الحوض ينعكس مباشرة على الأمن القومي. من هنا يبرز منطق التموضع المرن: حضور منخفض الضجيج، عالي العائد، يُدار بالمعلومة والتوقيت بدل التمركز العسكري الصلب.

هذا التحول يفسّر انتقال البحر الأحمر وخليج عدن من مجرد ممرين للتجارة العالمية إلى نظام نفوذ متكامل

غير أن هذا التموضع لا يعني القرب الجغرافي فحسب، بل القدرة على تحويل الجغرافيا إلى رافعة ردع منخفضة الكلفة.

فالردع هنا لا يُقاس بحجم الوجود، بل بقدرته على خلق معادلة عملية تقلّص عنصر المفاجأة، وتخفض نافذة الهجوم، وترفع كلفة الابتزاز قبل أن يبدأ. وهو ما يُعرف في الأدبيات الأمنية بميزة زمن القرار. وهنا تبرز أرض الصومال، بموقعها على خليج عدن وقربها من خطوط الملاحة المؤدية إلى باب المندب، عنصرًا محوريًا في معادلة القرار قبل الأزمة.

في الجغرافيا الاستراتيجية، لا يلزم التحكم بالمضيق ذاته للتأثير فيه؛ يكفي امتلاك موقع يسمح بالرصد والإنذار المبكر.

فالسفن المتجهة شمالًا تمر بمحاذاة هذا الساحل قبل دخول عنق الزجاجة، ما يمنح أفضلية زمنية تتحول سريعًا إلى قرارات أسرع وكلفة أقل. كما هو الحال في مضيقي هرمز وملقا، تُدار الممرات الحساسة بالتحكم في المخاطر لا بإغلاق الطرق.

منذ انفصالها عن الصومال عام 1991، عاشت أرض الصومال وضعًا رماديًا: كيان قائم بحكم الأمر الواقع بلا اعتراف دولي، لكنه نجح نسبيًا في بناء مؤسسات إدارية وأجهزة أمنية أكثر تماسكا مقارنة بمحيطه

ويبرز هذا الدور بوضوح في ميناء بربرة، الذي تجاوز كونه مرفقًا تجاريًا ليغدو مفصلًا جيو-اقتصاديًا مؤثرًا في أمن الملاحة الإقليمية. فموقعه وإمكانية ربطه بالداخل الأفريقي يجعلان منه أصلًا يؤثر في حسابات التأمين وكلفة المرور واستقرار سلاسل الإمداد، ضمن ترابط يمتد من خليج عدن إلى قناة السويس فأوروبا.

في اقتصاد المخاطر البحري، لا تعمل السوق وفق منطق وقوع الحدث من عدمه، بل وفق منطق مؤشر الخطر. شركات التأمين تُسعِّر الاحتمال مسبقًا، وحين يتصاعد التوتر تتحول إلى صانع قرار فعلي يفرض خرائط مرور بديلة بقوة التسعير، أي أن السياسة هنا تُترجم مباشرة إلى كلفة تُضاف على كل شحنة دون إعلان رسمي.

 بما أن التجارة البحرية تمثّل شريانًا حيويًا لأمن الطاقة والاقتصاد، فإن أي اضطراب طويل الأمد في هذا الحوض ينعكس مباشرة على الأمن القومي

في صراعات الممرات، لا تنتصر الدولة التي تملك أكبر قوة، بل تلك التي تجعل استخدام القوة ضدها قرارًا مكلفًا زمنيًا قبل أن يكون مكلفًا عسكريًا. والتحليل هنا لا يمنح شرعية أو ينزعها، بل يقرأ الوقائع كما تعمل لا كما ينبغي أن تكون.

ما يجري في البحر الأحمر ليس صراع خرائط وحدود، بل صراع قرار وزمن وحوكمة. والسؤال المفتوح ليس من يسيطر على البحر الأحمر اليوم، بل من سيملك حق تعريف استقراره غدًا.

،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،

قتل بلا رصاص: حرب تُدار ضد الحياة في السودان – الراصد الاثيوبي – ETHIO MONITOR

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  (To Type in English, deselect the checkbox. Read more here)
زر الذهاب إلى الأعلى
Lingual Support by India Fascinates