مقالات

اللغة الشاعرة عند حسن الترابي

 

محمد الشيخ حسين -كاتب سوداني

الراصد الإثيوبي – السودان

الثلاثاء 29 نوفمبر

ست سنوات مضت منذ أن لبت نفس الدكتور حسن عبد الله الترابي المرضية نداء ربها ورحلت من دار الفناء إلى دار البقاء، ومازال عبق سيرته النضرة يملأ المكان وأثره الباهي يغطي الزمان. وبين تلك النضرة وذاك البهاء يقتضي الإنصاف أن في أن نغوص في أعماق اللغة الشاعرة عند الترابي، على أن يعود لاحقا إلى اللغة المحكية عند الترابي

اللغة الشاعرة

اللغة الشاعرة عند عباس محمود العقاد هي اللغة العربية من جهة أنها (لغة بنيت على نسق الشعر في جملتها فن منظوم منسق الأوزان، والأصوات لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء)، وهنا ينداح سؤال هل اللغة الشاعرة عند الترابي جسور لغوية شفافة تغرق القارئ؟ ولعل أول من أجاب عن هذا السؤال ولفت النظر إلى لغة الترابي هو السياسي المخضرم المرحوم خضر حمد صاحب فكرة تحول نادي الخريجين إلى مؤتمر الخريجين ونائب الرئيس إسماعيل الأزهري، حين تحدث في مذكراته عن ثورة أكتوبر 1964 عن اللغة التي تحدث بها أستاذ القانون الدستوري في جامعة الخرطوم الدكتور حسن الترابي حين قال (إن المحنة ليست محنة الجنوب وحده، ولكنها محنة الشمال والجنوب من حيث فقدان الحرية والحياة الديمقراطية).

اختراق الحاجز

يكتب الراحل الدكتور حسن الترابي بأسلوب يكاد يخترق الحاجز الذي تمثله اللغة الشاعرة حين تقبع مثل الثعلب الماكر بين الكاتب والقارئ. فاللغة الترابية تنفذ إلى القارئ لتوصل إليه ما يعتمل في نفس الكاتب بكامل أبعاده، وهي من ناحية أخرى تبدو عصية على القارئ، بل تحتاج منه إلى حضور ذهني لا يكفي معه الحد الأدنى من الانتباه أثناء بالقراءة.

وتعطي الشاعرية في لغة الترابي القارئ الانطباع بتقديم فكرة جديدة حية وقوية، ولكن هذا الانطباع يهرب من القارئ إن لم يبذل جهدا شديدا في الحفاظ على المسافة بينه وبين الكاتب.

ويترتب على غياب هذا الجهد من قبل القارئ إن لا تنشأ أي علاقة تواصلية حقيقية مع الكاتب، وقد ينضم القارئ إلى (زفة) من يرون أن كتابات الترابي (مجرد تأويلات مضللة يوحي بها ثعلب اللغة الماكر، وفق مسافات المراوغة التي يقفزها بين الحين والآخر ليثبت للقارئ قدرته الفائقة على الإمساك باللغة).

المشترك الأوحد

يكمن سر لغة الترابي، في طريقته السردية. فهو يتنقل بالقارئ بين عوالم مختلفة تماما، ويربط بينها باستخدام اللغة الشاعرة التي تصبح المشترك الأوحد بين هذه العوالم. ولكن ذهن القارئ المستحث بلغة الكاتب، لا يقف عند هذا الحد، بل يحاول أن يربط بين هذه العوالم ويبحث عن علاقات مشتركة جديدة بينها، وتكون نتيجة هذا الجهد الذهني أن يجد القارئ نفسه خلال لحظات القراءة يدخل ويخرج ويغوص ويطفو بين مصطلحات متعددة لم يكن يظن أن بمقدوره التنقل بينها بهذه السرعة.

وقد لا يسع المجال هنا للغوص في ثنايا لغة الترابي الشاعرة، ولكن ينبغي أن نوضح أن معارف النشأة الأولى تبدو واضحة في سطوره، فالمعروف أن الترابي عندما وصل إلى الحادية عشرة من عمره كان قد أكمل بمعاونة والده الشيخ عبد الله الترابي أول السالكين في سجل القضاء الشرعي في السودان، حفظ أجزاء كثيرة من القرآن الكريم، واستيعاب ألفية أبن مالك، ومتن الأجرومية، وأوضح المسالك إلى فقه الإمام مالك.

ويعزي هذه التفوق في مسائل اللغة وفقهها إلى أن الوالد عبد الله أخرج أبنه حسن من بيئة القرية المعزولة إلى رحاب المعهد العلمي والعلم التقليدي، وخصه من دون أشقائه وإخوانه بفيض من علمه لما لمس فيه من رجاحة العقل وتقبله بسرعة للعلوم. والشاهد أن قراءة أمهات الكتب في سن مبكرة يعطي ذخيرة لغوية قوية وحية ومتجددة، خاصة أن سلك التعليم النظامي كان لا يأبه ولا يشجع مثل هذا الاطلاع.

الطريقة الترابية

حين أصدر الترابي كتابه الأول (الإيمان أثره في حياة الإنسان) في العام 1974 تراه يسهب في اللغة الشاعرة التي تتناول (عقيدة الإيمان التي تقوم على التوحيد من موقف كلي ليس لوجوه التعبير عنها من حر، بل مسرحها الحياة الإنسانية حميعا). وهذا ما عبر عنه الدكتور بشير نافع رئيس مركز دراسات الإسلام والعالم  بالقول (لقد قرأت بواكير كتابات الدكتور الترابي طالبا في جامعة القاهرة في السبعينات. كنت آنذاك قلقا ومحبطا، فمنحتني أفكاره، وأعتقد أنها منحت العديدين من مجايلي، إحساسا بالثقة والقدرة على تكوين رأي مستقل).

قد يكون هناك شبه بين أسلوب الانتقالات المفاجئة بين المصطلحات المختلفة لتصبح متداخلة على الطريقة الترابية، وبين الهدف الذي تسعى إليه المدرسة الفرنسية في الكتابة من محاولة تحقيق التداخل بين عوالم المثال والواقع. وميزة المدرسة الفرنسية أنها لا تغرق في ممارسة المثال كبديل عن الواقع، ولا تستقطب بالكامل داخل الحلم حتى تنسى الواقع ويتحول المثال إلى أكذوبة كل هدفها الهروب من الواقع.

المفكر والسياسي

يبدو لي أن إنتاج الترابي الفكري لم يجد حظه من النقاش، إذ أن غلبة الجدل حول المواقف السياسية طغى على شخصية المؤلف، لدرجة أن شخصية الترابي المفكر قد اختفت أو تاهت أو تراجعت أمام شخصية الترابي السياسي، والأمثلة كثيرة، فمجمل النقد الذي صوب للجزء الأول من كتاب التفسير التوحيدي، انصب كله على شخصية الترابي السياسية ومواقفه من القضايا المثارة، بل أن بعضهم بشطح في تقديره معتبرا أن الترابي ساحر الليالي يندر أن يقدم لنا إنتاجا فكريا بواقعية متزنة.

غير أن لغة الترابي الشاعرة لفت نظر الدكتور رفعت السعيد، حين أهدى الراحل الترابي في مطلع العام 2004 نسخة من كتابه (السياسة والحكم ــ النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع) إلى السياسي المصري المخضرم الذي كان حينئذ الأمين العام لحزب التجمع المصري، وقد توقف وهو الماركسي الصميم كثيرا عند عبارة الترابي توقف (إن بناء أنظومة الحكم الإسلامى لا يكون إلا بالحرية الأتم والشورى الأوسع والعقد الاجتماعى المؤسس على الرضا والاختيار).

المصطلحات السياسية

وحين أصدر الترابي في مطلع الألفية الثالثة كتيبا صغيرا من 84 صفحة من القطع الصغير بعنوان (المصطلحات السياسية في الإسلام)، أسهم الطقس السياسي الذي ظلل سماء السودان في أعقاب تداعيات مذكرة العشرة في أن لا يجد هذا الكتيب، رغم الجهد العلمي الرصين، حظه من النقاش.

وعودة إلى مسألة اللغة، فإن الترابي ينبه في مقدمة الكتاب إلى أن (اللغة التي تعبر عن الحياة السياسية في بيئة ما إنما تتطور اتساعا في التصريف ورسوخا في المعاني مع تطور تلك الحياة والثقافة نموا واستقرارا أو بؤسا واضطرابا).

في كتاب المصطلحات السياسية في الإسلام نقابل الترابي، وهو يعمل على نقل الواقع ورسمه من داخل اللغة، فلا يكاد القارئ يدرك أثناء القراءة أهو في مجال الكلام أم في مجال الواقع، ولا يعود يميز متى يخرج من الواقع ويسبح في اللغة، ففي المقدمة ينبه الدكتور الترابي إلى أن المسلمين قد يضطروا لابتداع كلمات جديدة تستوعب مفهومات سياسية عارضة على تقاليد الثقافة. ويقدم مثالا على هذا التنبيه فقديما كانت تنتشر كلمة (دار الإسلام) وحديثا تملأ حياتنا كلمة (الحكم الاتحادي). ويسير الأمر على هذا الشكل مع مصطلحات الترابي، فلغته تنسف حاجز اللغة المراوغة، ولا يحاول أن يبدو مثقفا كي يبتعد بنا عن أصل الموضوع باجترار أسماء وتعريفات. ولكي نعرف نفهم هذا النص علينا أن ندرك حال لغة الكتابة عن المصطلحات ونقارنها بحالها مع الترابي الذي يشق تاريخ الكتابة إليها ما قبل وما بعد، خاصة أن الحضارة الغربية حينما غزت المسلمين نزلت عليهم تعابير من غير ما عهدوا من قيم ونظم وعلاقات ووسائل ومصطلحات غربية. ولعل لغة الكتابة عن المصطلحات في السودان قبل كتاب الترابي هذا أقرب إلى مسئول رسمي يطلق التصريح ونقيضه من برجه العاجي دون أن يرف له جفن أو يرصد ردود أفعال تصريحاته.

ضبط المصطلح

لعل ميزة الترابي أنه لم يتعاشر مع هذا المسئول الرسمي منذ أن سطع نجمه السياسي في أكتوبر 1964، إلى أن أحيل إلى التقاعد عن العمل السياسي الرسمي في ديسمبر 1999م، لذا فهو من السياسيين القلائل الذين يعلمون كيف يستدعون هذا المسئول الرسمي إلى بيوتهم فيخلع عنه بزته الرسمية ليدلف إلى الحمام ويغسل عن يديه دهون المراسم والأتيكيت، وقد يستلقي منهكا فيغلبه النعاس ثم يستيقظ ليجد نفسه مرتديا عراقي وسروال الحياة العريضة، حيث ترفع الكلفة ويحبس الترابي السياسي ويبدأ الترابي المفكر الكتابة.

من المهم جدا الإشارة إلى أن كتاب (المصطلحات السياسية)، احتوى على محاولة لضبط المعاني لنحو 23 مصطلحا تملأ حياتنا العامة، كما يحطم الكتاب التصور الخاطئ عن الحياة العامة، من حيث منشطها الأحمى (السياسة) ووقع السياسة فيها الأفعل (الحكم) وقوة الحكم العليا (السيادة) وإطار السيادة الأسمى (الدولة) وما وراءها. والقضية هنا أن مصطلح الحياة العامة لم يكن فاشيا في الماضي عند المسلمين، لأن حياتهم إذ تدهور بهم تدينهم أصبحت بغالبها خاصة، والعام منها في صلات المجتمع والسياسة فتر بدينهم المنحسر وقصر على أهل دوائر السلطان وحدهم.

وهكذا تسير جسور لغة الترابي الشفافة تثبت للقارئ أن الكاتب المجد ليس مجرد باحث يلتزم صرامة المنهج، بل مفكر مغرم بالتجديد لدرجة أنه لا يهجر تجريد المنهج طوعا ليقيم في منهج الواقع ويملأه فكرا وتجديدا.

جسور لغوية

هل يغرق القارئ نفسه في خيالاته بفعل لغة الترابي؟ يبدو لي أن الترابي قد تمكن من تجاوز نظريات العوالم غير المتكافئة، بل وتخطي العوالم المتوازية ورفض العوالم المنغلقة، ليصنع جسورا لغوية لحظية يكاد القارئ من فيض شفافيتها لا يشعر بانتقاله عبرها من مصطلح لأخر، فيشعر بالمعاني على شكل عوالم متداخلة، فلا يعود يميز بين الواقع والمثال.

ولعل هذه المهارة الترابية المعتمدة على الواقعية المفرطة، حيث يتعمد الكاتب تكثيف الواقع وضغطه، ويواجهه كمصارع يعتصر غريمه ويثبته ويعيد تشكيل أضلاعه بدلا من أن يهرب منه.

بهذه الطريقة الفريدة نجح الترابي في تحويل محاولاته الكتابية في النبش عن مدلول واقعي للغة عبر البحث عن المعاني والعلاقات، إلى نقش سرمدي جديد لن يزول عن واقع السياسة العربية المعاصر.

ورغم أن مشارب الكتابة عند الترابي أوروبية وتراثية، إلا أنها تمنح قيمة عالية للغة العربية التي تستخدمها وترتقي بها وتتجلى معها خلال محاولات العثور على ملامح شبكة الأفكار والروابط. ولكل هذا ربما يضطر الناس في زمن ما إلى الوقوع مرة ثالثة عند ود الترابي الحفيد.

،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  (To Type in English, deselect the checkbox. Read more here)
زر الذهاب إلى الأعلى
Lingual Support by India Fascinates