مقالات

قتل بلا رصاص: حرب تُدار ضد الحياة في السودان

عبدالناصر سلم حامد- كبير الباحثين ومدير برنامج السودان وشرق أفريقيا – فوكس السويد
باحث أول في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
الراصد الإثيوبي -السويد 
السبت 27 ديسمبر 2025 

يُكتب هذا النص في لحظة لم تعد فيها الكلمات تسبق الموت، بل تحاول فقط أن تلحق به.

لا يسرد هذا النص مأساة السودان بوصفها وقائع إنسانية متفرقة، ولا يكتفي بتوصيف المعاناة أو تعداد الخسائر، بل يسعى إلى تفكيك المنطق الذي حوّل الحياة اليومية نفسها إلى ساحة حرب.

فالقضية لم تعد عدد الضحايا أو حجم الدمار، بل التحوّل الجذري في طبيعة الصراع: من استهداف الخصوم العسكريين إلى استهداف شروط البقاء، ومن مواجهة ميدانية إلى حرب تُدار ضد المجتمع ذاته.

في السودان، لم يعد الموت حدثًا مفاجئًا ولا نتيجة مواجهة مباشرة. لقد تحوّل إلى عملية تُدار ببطء، كأنها تآكل صامت في جسد جماعي.

ففي دارفور والخرطوم والجزيرة وكردفان، لا تُقاس قسوة الحرب بما يُسمَع من انفجارات فقط، بل بما لا يُرى: طرق تُغلق دون إعلان، أسواق تتوقف دون قرار، مخزونات تُنهب، ومرضى لا يصلون إلى علاج لأن الوصول نفسه صار مخاطرة. هذه ليست أضرارًا جانبية، بل نمط عنف غير مباشر يستهدف شروط الحياة.

القتل بلا رصاص ليس استعارة لغوية، بل نظام.
نظام يُنتج الموت بوصفه نتيجة طبيعية لتعطيل الحياة. ففي هذه الحرب، لا يُقتل الإنسان لأنه في مرمى النيران، بل لأنه يُدفع تدريجيًا إلى حافة العجز عن الاستمرار.

في السودان، لم يعد الموت حدثًا مفاجئًا ولا نتيجة مواجهة مباشرة. لقد تحوّل إلى عملية تُدار ببطء

لفهم هذا الاستنزاف البطيء، يكفي النظر إلى يوم واحد في حياة مواطن عادي. يستيقظ قبل الفجر لا لأن لديه عملًا، بل لأن النوم لم يعد ملاذًا آمنًا. يتفقد المكان بعين اعتادت الحساب: هل الجدار قائم؟ هل الباب سليم؟ هل الهاتف يشحن إن وُجدت كهرباء؟ الصمت ليس طمأنينة، بل فراغ ثقيل.

تبدأ الحياة بقائمة قصيرة: ماء، خبز، دواء. ليست أمنيات، بل شروط بقاء. يخرج إلى الشارع بحذرٍ مكتسب، يقرأ الوجوه كما تُقرأ الخرائط، ويختار الطريق الأقل كلفة. الشوارع لم تعد طرقًا فقط، بل احتمالات؛ كل زاوية تحمل ذاكرة حادث، وكل مبنى صامت يخفي قصة لم تُروَ.

الانتظار صار مهنة. انتظار فتح السوق، توفر الخبز، عودة التيار، خبر لا يحمل اسم شخصٍ يعرفه. الزمن هنا لا يمضي للأمام؛ يدور حول نفسه. الأيام متشابهة إلى حد أن التاريخ فقد معناه، ولم يعد الفرق بين الأمس والغد واضحًا. المقياس الوحيد: هل مرّ اليوم دون خسارة جديدة؟

في البيت، تصبح التفاصيل الصغيرة مركز الحياة. كوب ماء يُقتسم، شمعة تُحفظ لليل أطول، طفل يُطلب منه أن يهمس بدل أن يضحك. الخوف لم يعد طارئًا، بل إطارًا عامًا للوجود. لا تخطيط للمستقبل ولا قرارات كبيرة. تُؤجَّل الحياة، ويُمارَس البقاء بوصفه مهارة يومية.

هذا المشهد ليس فرديًا، بل تعبير مكثف عن منطق الحرب. فحين تُستنزف الحياة بهذه الطريقة، لا يعود العنف استثناءً، بل جزءًا من التنظيم اليومي للوجود. هنا يتجلى القتل بلا رصاص بأوضح صوره: إنهاك بالحرمان، استنزاف بالانتظار، وسحب تدريجي للقدرة على تخيّل ما بعد الحرب.

منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023، اتّسع هذا النمط ليُنتج واحدة من أعقد الأزمات الإنسانية في العالم. فوفق تقديرات أممية حديثة صادرة عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، بات أكثر من 25 مليون سوداني بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، فيما تجاوز عدد النازحين داخليًا وخارجيًا 10 ملايين شخص. غير أن بعض الخسائر لا تُقاس بالأرقام: الثقة، الإحساس بالأمان، والقدرة على تخيّل المستقبل.

فحين تُستنزف الحياة بهذه الطريقة، لا يعود العنف استثناءً، بل جزءًا من التنظيم اليومي للوجود.

لا تُدار بعض الصراعات بالسيطرة على الأرض وحدها، بل بالسيطرة على الناس: على إيقاع حياتهم، وحركتهم، وإمكان وصولهم إلى الغذاء والعلاج. وحين تُقصى وظائف الدولة بفعل الحرب، يتحول الاحتياج إلى سوق موازٍ، والندرة إلى سلطة، والخوف إلى نظام غير معلن.

الأخطر أن هذه الحرب تُنتج زمنًا جديدًا للإنسان، زمنًا معلّقًا بلا أفق. لا تخطيط بعيد المدى، ولا قرارات مصيرية، لأن الاستقرار ذاته صار احتمالًا هشًا. هذا هو العنف الزمني: حين لا يقع القتل في لحظة واحدة، بل يمتد عبر الأيام والسنوات بإنهاك الجسد والنفس.

في الخرطوم، عادت المدينة إلى كنف الدولة بعد شهور من القتال، لكنها لم تعد كما كانت. فالعودة كانت إدارية وأمنية في المقام الأول، لا نفسية ولا اجتماعية. استعادة السيطرة لم تعنِ استعادة الحياة كاملة. كل شارع يحمل أثر المواجهات: مبانٍ متضررة، طرق فقدت إيقاعها، وجدران تحولت إلى سجل صامت لما جرى.

وتعمل الحكومة على إعادة الحياة إلى المدينة عبر استعادة الخدمات وتأمين الأحياء وإعادة تشغيل المرافق العامة. هذه جهود ضرورية في مسار التعافي، لكنها تصطدم بسؤال أعمق: من يستطيع أن يزيل هول الحرب من ذاكرة المدينة؟ فالخراب المادي يمكن ترميمه، لكن الخوف المتراكم والصمت الثقيل لا يزولان بسهولة.

وإذا كانت الخرطوم تحاول التعافي، فإن الصورة في دارفور أشد قسوة. هناك، سقطت المدن واحدة تلو الأخرى بعد قتال شرس واستبسال طويل من سكانها ومن بقي يقاتل حتى النفس الأخير من الجيش والقوات المشتركة. لكن ما أعقب السقوط كان في كثير من الأحيان أشد من المعركة نفسها.

تحولت المدن إلى مساحات مغلقة، أشبه بمعسكرات واسعة، تُدار فيها الحياة بالخوف لا بالقانون. لم يعد العنف حدثًا عابرًا، بل مشهدًا علنيًا وأداة حكم. مشاهد القتل العلني للمدنيين التي انتشرت بلا مواربة لم تكن ترهيبًا لحظيًا، بل رسائل مقصودة استهدفت الذاكرة الجمعية، وكسرت الإحساس بوجود أي حد أدنى من الحماية.

بهذا المعنى، لم تُهزم دارفور عسكريًا فقط، بل أُعيد تشكيلها قسرًا. فالأذى لا يقتصر على من قُتلوا أو اختفوا، بل يمتد إلى من بقوا أحياء، حاملين ذاكرة لا تهدأ، وحياة تُدار يوميًا تحت وطأة الرعب.

لكن أخطر ما في هذه الحرب ليس فقط ما يُرتكب فيها، بل ما يُسمح له بالاستمرار. فالصمت الدولي، حين يطول، لا يكون حيادًا، بل جزءًا من البنية التي تُبقي هذا العنف ممكنًا. وحين تتحول هذه الممارسات إلى نمط متكرر، فإنها تخرج من إطار الفشل إلى إطار الجريمة.

مشاهد القتل العلني للمدنيين التي انتشرت بلا مواربة لم تكن ترهيبًا لحظيًا، بل رسائل مقصودة استهدفت الذاكرة الجمعية

فالقانون الدولي الإنساني لا يحمي الجسد من الرصاص فقط، بل يحمي الحياة من التفريغ التدريجي. وحين يُخلق واقع يجعل الحرمان من الغذاء والعلاج والحركة نتيجة متوقعة ومستدامة، يصبح الموت — حتى إن لم يكن مباشرًا — ممنهجًا.

وهنا، لا يكون السؤال: من ينتصر عسكريًا؟
بل: كم من البشر يجب أن يُستنزفوا بصمت قبل أن يعترف العالم أن ما يجري ليس عرضًا جانبيًا للحرب، بل حربًا كاملة ضد الحياة نفسها؟

في زمن كهذا، لا تكون الكتابة فعل تضامن، بل فعل مساءلة.
ولا يكون الصمت حيادًا، بل مشاركة في القتل بلا رصاص.

،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  (To Type in English, deselect the checkbox. Read more here)
زر الذهاب إلى الأعلى
Lingual Support by India Fascinates