مقالات

حدود مكسورة: كيف أعادت الحرب السودانية تشكيل الإقليم؟

  د. عبدالناصر سِلِم حامد ፟ باحث أول في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب – مدير برنامج شرق أفريقيا والسودان، FOx Research – السويد  

الراصد الإثيوبي -السويد 

الأربعاء 10 ديسمبر 2025 

حين تتفكك دولة محورية بحجم السودان، فإن الانهيار لا يبقى حبيس حدودها. فالسودان، منذ أبريل 2023، لم يعد ساحة حرب داخلية فحسب، بل أصبح مركزًا لزلزال إقليمي يعيد رسم جغرافيا الأمن والسياسة والاقتصاد في القرن الأفريقي والساحل والبحر الأحمر. وما يضاعف خطورة هذا الانهيار هو أن السودان لم يعد يعمل بوصفه “دولة مركزية”، بل تحول تدريجيًا إلى دولة هجينة تتقاسم فيها السلطة أطراف متوازية: جيش رسمي، قوة شبه عسكرية، زعامات محلية، شبكات تهريب، وفاعلون إقليميون. ومع كل تقهقر جديد للمركز، تتقدم الأطراف وتملأ الفراغ.

تشير البيانات الأممية بوضوح إلى حجم هذا التفكك: 12 إلى 14 مليون سوداني أصبحوا نازحين ولاجئين خلال أقل من عامين؛ منهم 4.3 مليون عبروا حدود السودان إلى الجوار، ليصبح النزوح السوداني الأكبر عالميًا اليوم. وفي الداخل، يحتاج 30.4 مليون شخص إلى نوع من المساعدة الإنسانية، وهو رقم يعادل نصف السكان تقريبًا. هذه ليست أرقامًا مجردة؛ بل مؤشرات على أن البنية السكانية والسياسية للدولة في حال إعادة تشكّل جذري.

ومع تغيّر وظيفة الدولة، تغيّرت وظيفة الحدود، فبدلًا من أن تكون خطوطًا فاصلة ثابتة، أصبحت شقوقًا أمنية تمتد عبر دارفور وتشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، تشقّ سطح المنطقة، وتسمح بمرور البشر والذهب والوقود والسلاح والمصالح المتشابكة. هنا لا تعبر الحرب الحدود كحدث؛ بل تعبرها كبنية.

حين تتفكك دولة محورية بحجم السودان، فإن الانهيار لا يبقى حبيس حدودها. فالسودان، منذ أبريل 2023، لم يعد ساحة حرب داخلية فحسب، بل أصبح مركزًا لزلزال إقليمي يعيد رسم جغرافيا الأمن والسياسة والاقتصاد في القرن الأفريقي والساحل والبحر الأحمر

تشاد تمثل أول مختبر لهذه البنية الجديدة. إذ تستضيف اليوم قرابة 900 ألف سوداني بين لاجئ ونازح، وهو رقم يمثل أكثر من 30٪ من مجمل اللاجئين السودانيين في الخارج. وفي بعض مناطق وادي فيرا وسيلا، أصبح عدد السودانيين مساويًا — بل في بعض القرى متجاوزًا — لعدد السكان المحليين. هذه ليست أزمة لجوء عادية؛ إنها تحوّل ديمغرافي يغير هوية القرى والأسواق والخرائط الاجتماعية. ومع عبور المدنيين، تعبر مجموعات مسلحة أيضًا، بعضها مرتبط بصراعات دارفور التاريخية، وبعضها الآخر انفلت من السيطرة خلال الحرب. وبذلك يصبح الوجود السوداني الضخم في تشاد عامل ضغط على الاستقرار الداخلي التشادي، الذي يعاني أصلًا من إرث اضطراب سياسي وعسكري طويل. وكل تغير ميداني في دارفور يتردد صداه فورًا في شرق تشاد، وكأن البلدين باتا ضمن نظام أمني واحد لا يفصل بينه حدود حقيقية.

جنوب السودان، بدوره، يتلقى الارتداد من بوابة الاقتصاد. إذ يعتمد 88٪ من إيرادات الدولة على النفط الذي يُصدَّر عبر الأراضي السودانية.

قبل الحرب، كانت الصادرات تتراوح بين 150 و160 ألف برميل يوميًا. لكن أثناء عام 2024، ومع تمزّق أحد مقاطع خط الأنابيب وتعطّل أجزاء منه بفعل القتال وانهيار البنية التحتية، هوت الصادرات إلى نحو 60 ألف برميل يوميًا. ثم، في ديسمبر 2025، سيطرت قوات الدعم السريع على حقل هجليج ومجمع المعالجة الحيوي الذي يمر عبره معظم نفط الجنوب (نحو 165 ألف برميل يوميًا نظريًا)، وبذلك أصبحت جوبا تعتمد — في أهم مصدر دخل لها — على طرف مسلح غير رسمي لا يخضع لمنطق الدولة ولا لقيود القانون الدولي. وهذا التحول لم يضرب مالية الدولة فحسب، بل ضرب استقرارها السياسي أيضًا.

وبالتوازي، تدفق نحو 1.16 مليون وافد جديد إلى جنوب السودان خلال الحرب — معظمهم إما لاجئون سودانيون أو عائدون جنوبيون كانوا يعيشون في السودان — مما أدى إلى تشكل بيئات اجتماعية جديدة داخل ولايات أعالي النيل وولاية الوحدة. هنا لم تعد المخيمات مجرد مراكز استقبال، بل أصبحت نقاطًا لنشوء اقتصاد ظلّ، ولقاءات بين شبكات تهريب تمتد نحو شرق دارفور وممرات الحدود.

وفي أفريقيا الوسطى، يظهر وجه ثالث لهذا التفكك. فالدولة، التي تعتمد على قوى خارجية مثل “فاغنر” لفرض الحد الأدنى من السيطرة، تجد حدودها الشمالية وقد تحولت إلى امتداد مباشر لأزمة دارفور. عشرات الآلاف من السودانيين لجؤوا إلى مناطق فقيرة أصلًا، مما خلق منافذ واسعة لمرور الذهب، وهو المورد الأهم لشبكات “فاغنر”، مقابل تزويد مجموعات مسلحة سودانية بالوقود والسلاح والخدمات اللوجستية. وهكذا يصبح اللاجئ جزءًا من معادلة أوسع، ليس بوصفه متأثرًا بالحرب فقط، بل بوصفه داخلًا إلى منظومة اقتصادية–سياسية عابرة للدول.

وليبيا تعمّق هذا المشهد عبر البوابة الشمالية. إذ كان الجنوب الليبي، منذ سنوات، مساحة مفتوحة لعدد كبير من المقاتلين الدارفوريين الذين انتشروا في صحرائه ضمن تحالفات مع مجموعات ليبية.

ومع اندلاع الحرب، عاد جزء منهم إلى السودان بخبرة قتالية وتمويل، وبشبكات تهريب وقود وسلاح تمتد من سبها والكفرة إلى المثلث الحدودي. في الاتجاه المعاكس، يتحرك الذهب السوداني نحو ليبيا ليُعاد تصديره عبر شبكات إقليمية، مما يجعل ليبيا ودارفور وتشاد جزءًا من جغرافيا أمنية واحدة لا تعترف بحدود الدول، بل بمنطق السيطرة والموارد.

شأت منظومة إقليمية لاقتصاد الحرب، لا يمكن فصلها عن تأثيرات النزاع على دول الجوار.

أما إثيوبيا، فتقرأ الحرب السودانية بوصفها فرصة وتهديدًا في آن ، فهي تستفيد من انشغال الخرطوم لتكريس وجودها في الفشقة، وفي الوقت نفسه تخشى أن يؤدي انهيار شرق السودان إلى دفع موجات جديدة من السودانيين نحو ولايات تعاني أصلًا من توترات عرقية وأمنية. وإلى جانب ذلك، ترى أديس أبابا في الفراغ السوداني على البحر الأحمر ساحة لإعادة تموضع قوى إقليمية مثل الإمارات وتركيا ومصر، مما يجعل البحر الأحمر مسرحًا تنافسيًا يلامس صميم أمنها القومي.

إريتريا، بدورها، تعتبر شرق السودان امتدادًا حيويًا لأمنها. فهي تخشى احتمال عودة المعارضة الإريترية إلى النشاط من داخل السودان إذا استمر الانهيار، كما تخشى أن يؤدي ضعف الدولة السودانية إلى دخول قوى بحرية إقليمية أو دولية إلى الساحل السوداني، وهو ما يمثل تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا لها. ولذلك تتعامل أسمرة مع الحرب بوصفها تهديدًا طويل الأمد.

كل هذه التحولات أعادت تشكيل وظيفة الحدود في الإقليم. فالحدود لم تعد أدوات ضبط الدولة، بل أصبحت ممرات تتحكم فيها شبكات مصالح مسلّحة. من يسيطر على طريق الذهب بين دارفور وأفريقيا الوسطى؟ من يضبط حركة الوقود القادم من الجنوب الليبي؟ من يملك القدرة على فرض رسوم على القوافل العابرة من نيالا إلى أدري؟ هذه الأسئلة أصبحت أكثر تأثيرًا في استقرار الدول من الأسئلة التقليدية حول الجيوش والسيادة.

عند النظر إلى مستقبل الأزمة، لا تظهر السيناريوهات كمسارات منفصلة، بل كخيوط متشابكة.

وبموازاة ذلك، نشأت منظومة إقليمية لاقتصاد الحرب، لا يمكن فصلها عن تأثيرات النزاع على دول الجوار. ذهب دارفور يدخل شبكات تهريب نحو ليبيا ومنها إلى أسواق خارجية. النفط الجنوبي لم يعد يعتمد على الخرطوم فقط، بل أصبح رهينة صراع بين الجيش والدعم السريع. البشر أنفسهم — اللاجئون — أصبحوا جزءًا من دورة اقتصادية–أمنية تربط تشاد بأعالي النيل وجنوب ليبيا. ومع انهيار التمويل الإنساني — حيث لم تحصل خطة الأمم المتحدة لعام 2024–2025 إلا على نحو نصف التمويل المطلوب — أصبحت المسارات العسكرية والسياسية أكثر تأثيرًا من المسارات الإنسانية.

وعند النظر إلى مستقبل الأزمة، لا تظهر السيناريوهات كمسارات منفصلة، بل كخيوط متشابكة. فهناك مسار محتمل تستقر فيه البلاد في وضع “حرب منخفضة الكثافة”، تتراجع فيها المعارك الكبرى لكن تستمر الاشتباكات على الخطوط الحدودية، وتبقى مدينة مثل الفاشر أو نيالا مركزًا لسلطات أمر واقع تتقاطع مع تشاد وأفريقيا الوسطى أكثر مما تتقاطع مع الخرطوم. وهناك مسار آخر قد تفرض فيه القوى الدولية تسوية توقف القتال دون أن تفكك اقتصاد الحرب، فتنتج “هدنة هشة” تخفي تحتها استمرار التهريب والاقتتال المحلي. أما المسار الأخطر، فهو “التفكك الصامت”، حيث تنشأ كيانات محلية تسيطر على الموارد وتبني علاقات خارجية خاصة، وتصبح حدود السودان أقل وضوحًا من أي وقت مضى: من يحكم دارفور؟ من يحكم الشرق؟ ومن يتحكم في خطوط النفط؟

شأت منظومة إقليمية لاقتصاد الحرب، لا يمكن فصلها عن تأثيرات النزاع على دول الجوار.

في جميع هذه الاحتمالات، تبقى الحقيقة المركزية أن الحرب السودانية لم تعد حدثًا داخل دولة واحدة، بل أصبحت عملية إعادة تشكيل للإقليم بأكمله — في سكانه، وحدوده، واقتصاداته، وتوازناته. وقد تتوقف المدافع غدًا، لكن الخرائط الجديدة التي رسمتها الحرب لن تعود بسهولة إلى ما كانت عليه. فالإقليم يعيش اليوم في عالم الحدود المكسورة، حيث تحكمه شبكات المصالح والسلاح أكثر مما تحكمه الدول.

،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  (To Type in English, deselect the checkbox. Read more here)
زر الذهاب إلى الأعلى
Lingual Support by India Fascinates