إضاءات حول تاريخ الإعلام والسياسة وتجربة الحركة الشعبية

سعد محمد عبدالله-كاتب سوداني
الراصد الإثيوبي -السودان
الخميس 17 يوليو 2025
لمحات حول تاريخ الإعلام:
يرجع تاريخ الإعلام إلي عصور قديمة جدًا، وقد إختلف المؤرخون والكُتاب حول تعريفه؛ ولكن مع مرور الأزمنة تم إيجاد تعاريف مختلفة، ونأخذ هنا ما تم الأجماع عليه؛ وهو “أن هذا المصطلح يطلق علي أيّ وسيلة أو منظومة؛ إذا كانت حكومية أم خاصة، تقوم بمهمة نقل ونشر المعلومات والأخبار بوسائل مختلفة؛ أيا كانت”، وقد جرى تنظيم العمل الإعلامي والصحفي من خلال وضع قوانيين تضبط المؤسسات الإعلامية وعموم العامليين في هذا الحقل، ويمكن مراجعة “القانون الدولي للصحافة والإعلام”، والذي وضع قواعد ومبادئ وضوابط تُنظِم العمل الصحفي والإعلامي، وتنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان علي حرية التعبيير عن الفكر والرأي والضمير، وكذلك إتفاقيات جنيف لنزع السلاح، والتي وُضعت لحماية الصحفيين والإعلاميين في مناطق النزاعات حول العالم، والإعلام تحول إلي واحدة من أهم الأدوات المستخدمة في عمليات التواصل والحوار الإنساني والفكري والسياسي بين الشعوب، وأداة لإرساء السلام والديمقراطية ومراقبة المؤسسات الحكومية، ومنصات مهمة لنقل روئ التنظيمات السياسية وبرامج الشركات التجارية والسياحية الضخمة والإستثمارات العابرة لحدود الأقاليم حول العالم وغيرها من المجالات، وتعتبر أجهزة الإعلام مثّل “التلفاز والراديو والصحف والمجلات والهواتف والسنما والإنترنت وغيرها” تمثل البنية الأساسية للنهضة الكونية القائمة علي الأسس العلمية والمهارات الإبداعية، وتعمل من خلال خاصية التأثير المباشر علي تفاصيل حركة الحياة البشرية بكل تفاصيلها، والإعلام من الوسائل التي تسمح لمن يستخدمونها التواصل مع المجتمعات حول العالم في أوقات مختلفة، وبلغات وثقافات وتعابير متعددة الألوان؛ مما يمكن عملية التعارف وإنتشار الأفكار الجديدة والثقافات والعلوم والمعارف علي إمتداد هذا العالم المتحول، وما يدفعنا للإهتمام بوسائل الإعلام هو أنها تؤثر بشكل واضح في مراكز إتخاذ القرار السياسي علي المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتظل الحقيقة التي لا لبس فيها “أن لا إنفصال البتة في إتصال السياسة والإعلام والجماهير”، وسنحاول أن نعكس ذلك من خلال المتابعات التالية!!.
الإعلام في تجربة الحركة الشعبية:
هنالك تجارب مهمة للحركة الشعبية في تأثيرها وتأثرها بوسائل الإعلام المختلفة طوال مشوار ثورة التحرر التي خاضتها منذ تأسيسها في العام 1983م بقيادة د.جون قرنق دي مبيور ورفاقه الذين شاركوا في التحولات السياسية والثورية التي عبرت عنها أجهزة الإعلام الحركي التحرري، وعكست رؤية السودان الجديد للشعب السوداني والقوى السياسية الوطنية الحية آنذاك، وحتى في فترة السلام القصيرة التي إستمرت لخمسة سنوات خلال تطبيق إتفاقية نيفاشا للسلام الشامل، ومرحلة إنتخابات العام 2010م تمثّل محطة مهمة في مسيرة الصحافة والإعلام التي كان لها أثرًا واضحًا؛ لا سيما وأن تجربتنا تاريخيًا مُثقلة بصراعات السلطة والإعلام وبينهما شعب يبحث عن الحقوق والحقائق، وتتضح المعضلة في قانون الصحافة والمطبوعات لسنة 2019م، وتظهر أهمية وتأثير وسائل في المشهد السياسي والعسكري أثناء الحرب والسلام؛ فقد أدركت الحركة الشعبية ذلك في بواكير نشأتها، وأنشأت في الثمانينات “إذاعة الجيش الشعبي” وتديرها كتيبة عسكرية قائمة بذاتها، وكانت تبث نشراتها وبرامجها من دولة أثيوبيا مثّل “مُورَّال/جلالات وأغاني الجيش الشعبي”، والتي كانت بمثابة وسيلة إعلامية قوية تنتشر بسرعة البرق وتخلق روح تنافسية، وقد ساهمت بفاعلية في نقل رسالة الحركة الشعبية للشعب السوداني وفتح منصة حوار مع القوى السياسية الوطنية، وأيضًا الإجابة علي الكثير من الأسئلة المطروحة بشأن رؤية السودان الجديد، وعند إنهيار نظام الرئيس منقستو هايلي مريام فقدنا الإذاعة وبرامجها، وحتى الأداء في الميدان تأثر، وبعدها كانت هنالك محاولات لإنشاء “Newsletter” لكنها توقفت لعدم وجود تمويل مستمر، وأمامنا تجربة “صحيفة أجراس الحرية” المولودة في العام 2008م، والتي كتب فيها كبار الصحفيين والسياسيين من الحركة والأوساط الآخرى، لكنها أوقفت بقرار من السلطة الإنقاذية بعد إنفصال جنوب السودان عن السودان، ولدينا “صحيفة مدارات جديدة” في العام 2018م، والتي كانت نافذة للإعلام الثوري الحر وصوت للمهمشيين، وقد جمعت نخبة مميزة من الكُتَّاب السياسيين والصحفيين إلا أنها توقفت مع التحولات التي طرأت داخل التنظيم، وقد أتت بعدها “صحيفة رؤية جديدة” في العام 2023م، ولكنها توقفت مع إنطلاقة الحرب في السودان؛ إضافة إلي عوامل آخرى، وهنا نرى أن من الممكن الإطلاع علي تجربة خارجية مثل “إذاعة صوت العرب” التي كان لها دورًا محوريًا في الثورة الجزائرية خلال الفترة من 1954م إلي 1962م، وما زلت أتذكر نقاشات ثرة أجريتها مع صديقي الراحل الفيلسوف الجزائري البشير ربوح، والذي يُعد من أهم الفلاسفة المنظرين لثورة الجزائر في العام 2018م التي أتت متزامنة مع ثورة ديسمبر السودانية، ونأخذ أيضًا “إذاعات عمال المناجم” في بوليفيا؛ لكونها تحمل رؤية إنسانية تشاركية عميقة تستمد قوتها من إرتباطها العضوي بحركة الجماهير من أطياف الفقراء والعمال الكادحيين، وتمثل هذه أدوات من خارج ثقافتنا الإعلامية لكنها واحدة من التوجهات الجديدة في دراسات الإتصالات وتفاعلات إعلام الجنوب العالمي مع حركة المجتمع سواء كان في مقاومة الإستبداد والإستعمار أو من خلال نقل ثقافات المجتمعات للعالم بشكل عام، وهذا ما يدفعنا للتأمل وقراءة التطورات التي أحدثتها تلك التجارب علي كافة المستويات.
جدلية العلاقة بين الإعلام والسياسة:
أمامنا اليوم سؤال محوري وجدلي فرض وجوده علي المسرح السياسي والإعلامي بشأن أسباب توقف تلك الوسائل الإعلامية عن أداء مهامها؛ إلا أن الإجابة أصعب مما يبدو عليه السؤال، ذلك لأن طبيعة العلاقة بين الإعلام والسلطة تشوبها إضطرابات كثيرة بسبب الإختلافات المفاهيمية أو تضاد المصالح وغياب القانون، ولذلك نقوُّل أن هذه المسألة في أجزاء أساسية منها ترتبط بعملية التحولات السياسية العنيفة التي تحدث من وقت لأخر داخل الحركة الشعبية وخارجها مع صلتها الوثيقة بها أو بين أطراف آخرى تجمعها وتفرقها مصالح ومطامع سياسية وإقتصادية وإجتماعية، ونودُ هنا تسليط بصيص من الأضواء علي هذه التجارب الماضية باعتبارها حمالة إرث يعطينا فكرة جيدة حول إهتمام التنظيم بالعمل الصحفي والإعلامي المنظم والموجه نحو تثبيت مفاهيم محددة مع فتح نافذة لدراسة حالات تصادم أجندة الإعلام والسياسة مع توجهات السلطة القائمة، ويقودنا ذلك إلي فهم إدراك الحركة لأهمية نشر وتبادل الأفكار والأراء عبر الحوار المباشر مع جمهور واسع ومتنوع في الأعراق والأراء والجغرافيا، والتدرج في إستيعاب الأدوات المدنية السلمية في هيكلة تنظيم ثوري مسلح، وأيضًا التفاكر مع الفعاليات السياسية والمدنية الحليفة والمخالفة للحركة حول العديد من القضايا ذات الإهتمام المشترك، ويجب الوقوف بتأمل علي التجارب الإنسانية العلمية والعملية للعالم من حولنا مع وضع حالة التجاذب والتنافر التي تظهر من وقت لأخر في جوهر العلاقات بين الإعلام والسلطة والشعب قيد التحليل والدراسة بشكل مستفيض ومستمر بغية الخروج بنتائج تمكنا من إيجاد حل للمشكلات المستقبلية المحتملة في هذا المجال.
تفاعلات الإعلام وتطور العالم المعاصر:
لم تعد هنالك فاعلية كما في السابق لآلة الإعلام التقليدي التي تستخدمها التنظيمات السياسية؛ خاصةً بعد الطفرة التكنلوجية التي نشهدها في العالم اليوم، إذ طغت وسائل الحداثة المتجددة علي سطح المسرح الإعلامي مثلها مثل غيرها من المسارح المفتوحة في هذا العالم المتحول علي مدار الساعة، ويجب مواكبة ذلك بأدوات العصر؛ فلزامًا علي التنظيمات السياسية تجديد ثيابها القديمة “أيّ نمط التفكير في التعامل مع الإعلام الحديث” من خلال التقدم نحو ساحات الإعلام بعقل سياسي منفتح وقابل للتجديد بما يفتح فضاء الحوار المباشر فيما بينها ومع الجماهير لا سيما الجيل الجديد حول مشاريعها وبرامجها المختلفة، وتُعد عملية دراسة الأدوار من مصادر المعلومات السياسية مساحة للبحث عن الحقيقة والصدارة السياسية وترسيخ قييم الشفافية والحوار الديمقراطي، والمجتمعات الآن تبحث عن المعلومات السياسية الصحيحة بوسائل أسرع وأحدث مما كان في السابق، وبما يتيح لهم المشارکة بفاعلية أكثر في حوار تنويري ديمقراطي يؤدي للإرتقاء الفكري والمشاركة في صناعة القرار السياسي، ويعتبر دور الإعلام مؤثرًا جدًا من حيث نشر المعلومات والروايات السياسية وطرح الحلول والبدائل للأزمات التي تواجهها الشعوب والحكومات والتنظيمات في آن واحد، وبطرائق جديدة، ومن هنا نرى أن العلاقة بين الإعلام والمكونات السياسية والجماهير علاقة تفاعل وتكامل مستمرة، ولكن قد تأخذ تلك العلاقة مناحي تنافسية تتفاوت في درجات حدتها علي حسب الأهداف والمصالح والأحداث الجارية علي الساحة العامة؛ لذلك؛ لا بد من وضع إطار قانوني ينظم هذه العملية بكل جوانبها.
الإتصال والإعلام وتطور العالم:
هنالك تصورات ومناظير مفاهيمية مختلفة جدًا بشأن معادلات الإتصال والإعلام وعلاقة ذلك بحركة التطور الكوني، والعلاقة بينهما تكاملية، وتحمل في عمائقها أهداف مشتركة لا تنفصل عن بعضها البعض أبدًا إلا في الجوانب الفرعية الطفيفة، وفي هذه السطور نحاول أن نقف علي وجهات نظر من بعض العلماء والمختصين في مجالات الإتصال والإعلام من مختلف المدارس، ومن بين ذلك أراء المفكر السياسي إدموند بيرك – المُنظِر الأول لمفهوم “السلطة الرابعة”، والذي وصف الصحفيين بأنهم يمثلون “الحزب الرابع”، وهذه النظرة تبلورة من واقع تأثيرهم الواضح علي تفاصيل الحياة العامة بكل تبايناتها، ويرى الباحث كارل هوفلاند “أن الإتصال هو العملية التي ينقل بمقتضاها المُرسل منبهات لكي يعدل سلوك المستقبلين”، ونجد أيضًا؛ أن من وجهة نظر إبراهيم أبو عرقوب “فإن الإتصال الإنساني المنطوق والمكتوب الذي يتم داخل المؤسسة علي المستوى الفردي والجماعي يسهم في تطوير أساليب العمل وتقوية العلاقات الإجتماعية بين الموظفيين”، ويقوُّل غازي القصيبي “إن الإعلام سلاح فعال، لكنه ككل الأسلحة؛ سلاح ذو حدين”، ونجد أن كل هذه الأراء تتفق في نقطة واحدة؛ هي أن عملية الإتصال والإعلام في شتى مناحيها تمثّل مرأة المجتمع ووجه العالم في العهد التكنلوجي المعاصر، والمتطور في كل لحظة وحين، ويبقى مجال إستخدام الإعلام هو خيار المستخدمين، ومن خلال هذه الرؤية قد نستطيع العمل علي تفجير ثورة معرفية هائلة جدًا في هذا الفضاء المفتوح بما يقودنا جميعًا للعبور نحو النهضة الكونية المنشودة.
الخلاصة:
نختمُ قوُّلنا؛ بأن وسائل الإعلام والإتصال تقليدية كانت أم حديثة؛ حكومية أو خاصة، فانها تعتبر لسان يُعبِّر عن حال الدولة والمجتمع والمكونات السياسية والمدنية بمختلف مشاربها، ولذلك يجب علينا أن نضع إطارًا قانونيًا يحقق تنظيم العمل الإعلامي والصحفي بما يضمن حرية تلقي ونقل وتداول المعلومات، وتقييم وتقديم النقد بشفافية طبقًا لمعلومات صحيحة حول الأداء العام في الدولة والمشاريع السياسية المطروحة علي الساحات، وقد أشار القائد مالك عقار في كلمته التي قدمها علي منضدة ورشة مناقشة مقترحات تعديل قانون الصحافة والمطبوعات الصحفية لسنة 2009م، وذلك بتاريخ 26 مايو 2025م، ونقتبس من كلمته قوله “هذه المرحلة تفرض علينا، كدولة ومؤسسات وشعب، أن نعيد النظر في الأطر القانونية، التي تنظم الفضاء العام، وفي مقدمتها قانون الصحافة؛ نريد قانونًا يضمن حرية التعبير، ويصون كرامة الصحفي، ويؤسس لإعلام مهني، متوازن، يعكس الواقع وينير الطريق للمستقبل، ولن يكون ذلك ممكنًا إلا من خلال شراكة حقيقية، بين الحكومة والمجتمع الصحفي والمهنيين وأصحاب المصلحة، في إطار من الشفافية والإحترام المتبادل” نهاية الإقتباس؛ ويتفق ذلك مع الأراء التي أوردها الدكتور الواثق كمير تحت عنوان “رِحْلتي مع مَنصُور خَالِدْ: الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر! جون قرنق والبَحْث عن السَّلام والوحَدَّة”؛ الحلقة (46) التي نُشِرت بتاريخ 6 ابريل 2021م، ونقتبس قوله “لذلك، فإنَّ شبكة الإعلام من أجل السلام (MPN) التي أنشّأها المشاركون الإعلاميون، من الجنوب والشمال، في اجتماع ”فيينا“ تواجه عددًا من التحديات التي يجب مُواجهتها، على سبيل المثال لا الحصر:1)، الشراكة مع المُنظمات الأخرى ذات الصِّلة لمُواصلة الضَّغط من أجل إعتماد وتنفيذ تشريعاتٍ جديدة وإصلاح التشريعات القائمة، لضمان الوُصول إلى المعلومات ودعم بناء القُدرات في قطاع الإعلام من خلال – من بين أمور أخرى – تطويرٍ مهنيٍ فعَّال ومُستدام للرَّوابط الإعلاميَّة، 2) إنتهى الإقتباس، وبهذه الأراء الواضحة وغيرها من أحاديث الساسة والصحافة تتبين أهمية أن يتم تنظيم العمل الصحفي والإعلامي من خلال سَّن وتطبيق قانون يحفظ تساوي الحقوق والحريات للجميع، ويؤسس للإعلام المهني والمتزن، الذي يقود إلي دولة السلام والديمقراطية والمواطنة المتساوية والتنمية العادلة والمستدامة للريف والمدينة.
،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،
كلمة في وداع الزعيم هارون آدم “بادا”. – الراصد الاثيوبي – ETHIO MONITOR