أثيوبيا: بين الخاص والعام، الحلم والواقع.
هشام الشواني -كاتب سوداني
الراصد الإثيوبي -أديس أبابا
الأثنين 21 أكتوبر 2024
عدت اليوم للسودان من العاصمة الأثيوبية أديس أبابا في زيارة قصيرة، خاصة وعامة التقيت فيها بإخوة أعزاء وأصدقاء أعتز بمعرفتهم ما حييت، تعرفت قليلا على أديس أبابا وعالم إثيوبيا الساحر، وزرت متحفها وبعض كنائسها التاريخية حيث دفن إمبراطورها الأخير (هيلي سيلاسي) ورئيس وزرائها السابق (ملس زيناوي). عالم الحبشة جميل وتاريخها غني ويجمعنا معها كذلك مصير مشترك وعلاقات تاريخية تشتد حينا وتهدأ أحايين كثيرة، شعبها متدين وصابر ومكافح وطيب رغم الظروف القاسية، وثقافتها غنية بالموسيقى والرقص والتقاليد والأساطير والمرح، لكن العنصر الديني هو أهم عنصر في تشكيل الهوية الاثيوبية، الشخصية الأثيوبية لها عمق روحي فريد ونادر كيف لا وهي بنت تاريخ قديم في المسيحية وكنيستها الأرثوذكسية كنيسة عميقة الجذور ومنها نبعت القومية.
الإسلام هناك منتشر وقوي العود أيضا، ولولا ظروف التاريخ ومدافعات بعض القوى البعيدة غربا لتمدد أكثر، ناقشت وبعض الأصدقاء خواطر قديمة متجددة حول أهمية وجود مركز ثقافي باللغة العربية لدراسات القرن الأفريقي، مركز يمثل إشعاعا حضاريا يعمق المصير المشترك بين هذه الشعوب وصفوتها المتعلمة، مركز يقوم على الترجمة بين العربية والأمهرية والتقرنجا وغيرها، مركز يمنح العلاقة الجيوسياسية بعدها الفكري والنظري ويشجع الباحثين لدراسات عميقة تنفع أهل الحكم، وأهم شيء مركز يوثر على صفوة تلك البلاد ويقارب بين لغتها وميولها وثقافتها. ذلك أهم اليوم من صراعات الماضي فما بيننا أكبر مما بين كل دولة والغرب، أو بينها ومحاور الإقليم الأخرى لاسيما تلك الأكثر شرا وعداء لنا كما تعرفون، آمل في ذلك وأحب وأحلم.
حملت معي كتاب جمال محمد أحمد (في المسرحية الأفريقية) وأعدت قراءة الجزء المخصص للأديب والمسرحي (سقاي قبرا مدين) وتعلمت أن أنطق اسمه هناك بشكل أصح (تسقاي قبر مدهن) وفهمت لماذا أحب جمال محمد أحمد أديس أبابا فقد كان سفير السودان فيها. طالعت أيضا الفصل المخصص في كتاب آلان مورهيد (النيل الأزرق) عن أحب شخصية إمبراطور أثيوبي بالنسبة لي (تيدروس الثاني)، الرجل الذي كان يحمل روحا كنسية متعصبة وغارقة في المحلية مع جنون وتوحش وغرابة وحلم لا ينال، حلم تحطم مع مدافع الانجليز في مجدالا وانتحر هناك تيدروس. كتب آلان مورهيد بطريقة ساحرة وبديعة وشعرية عن أثيوبيا كلها المعزولة آنذاك وعن الإمبراطور تيدروس، الشاهد أن سقاي قبر مدين الذي ذكرناه أولا له مسرحية باسم تيدروس فقد وافقت شخصيته روح سقاي الفنية وحسه الخيالي بأكثر من المعروف (منليك الثاني) ذلك الرجل العظيم والأهم والمؤسس لأثيوبيا الحديثة والناجح لأنه تحالف مع ذئاب أوروبا الاستعمارية المتوثبة نحو القارة كما لاحظ جمال محمد أحمد. الهزيمة أحيانا أكثر فنية من النجاح.
كانت من أهم جوانب الزيارة تلك اللقاءات مع بعض قيادات القوى السياسية، لاسيما بعض أولئك الذين هم في الضفة الأخرى. جمعني بهم لقاء ونقاش منظم وقد أخبرتهم بوضوح عن أهمية العودة للسودان وضرورة الاعتراف بالأخطاء وأن هناك حدودا للصراع تجاوزها الكثير ضد البلاد، وأن العملية السياسية حين يأتي وقتها يجب أن تكون داخل السودان دون تفكير متسرع نحو سلطة بلا استحقاق، وهنا فإنني بت أخشى بكثير مما لاحظته من أن تتشكل في مجتمعات بعض المتعلمين في المنفى الاختياري ثقافة سياسية مغايرة ومتعارضة ومتناقضة مع معهود الثقافة السياسية السودانية بكل تياراتها، إن مكوث بعض الصفوة خارجا أتمنى ألا يطول أما الثوابت الوطنية فستبقى كما هي بالطبع مهما حدث وبلا مساومة. حمدت الله في بعض اللقاءات فلا تزال هناك قلة من متعلمين صفوة ومثقفين أكثر اعتدالا واستقلالا تعمل بصمت واجتهاد، جلهم ذوي خبرة وتجربة يصوبون هنا ويتحدثون بحكمة هناك ويرسلون الرسائل لكل الأطراف، هؤلاء يعول عليهم ولهم دور ستحفظه الأيام متى ما نضجت الثمار.
عقدت أيضا لقاء مع ممثل الاتحاد الأفريقي في السودان، هو رجل كريم محب للسودان وتحدث معي عن طبيعة جهودهم وفهمت منه رؤيتهم للعملية السياسية وسعيهم لجمع الأطراف، رحبت بذلك مع ملاحظات كثيرة ذكرتها له حول المواقف السابقة والأخطاء السابقة لكن المهم أننا داعمون لأي دور إيجابي للاتحاد الأفريقي بما يخدم السودان وسيادته وشعبه، تذكرت حديث جمال في كتاب عرب وأفارقة في مداولات قيام منظمة الوحدة الأفريقية وقتها، ورياح التغيير تتجاذب أفريقيا يمنة ويسرى، مضت عهود وريح عاصفة قادمة من الغرب البعيد وتجد دفعها من عواصم قريبة معادية كلها تتكثف لتقسم أفريقيا وتشتري صفوتها بالمال، أين نحن من ذلك العهد ومن أولئك الدبلوماسيين النبلاء، عموما فهمت منه ثمة مراحل قادمة أتمنى أن ننجح فيها ونشارك فيها بما ينفع، والخير في كل مكان كما تعلمون ولكل مقام مقال.
كان لي لقاء أيضا مع آخرين (أبعد شقة) ولهم تأثير على السودان منذ وقت قديم، وقد حاولت أن أفهم منهم ماذا يريدون؟ وأقول لهم ماذا نريد وكيف نرى الأمور، وأحسب أنني فهمت وأوضحت ما أستطيع. بشكل عام فإنني فهمت أيضا أن وحدة السودانيين وإصلاح الصفوة منهم وترسيخ نهج الحوار بينها وجمع الكلمة على مشتركات هو الأمر الذي لن يمكن أي طرف خارجي منا رغم مؤامراتهم الذكية والخطيرة، وفهمت أيضا أن الأصول الفكرية للصراع والأبعاد النفسية والآيدلوجية العميقة للمواقف السياسية موجودة وبالتالي فإن كل عمل فكري وسياسي وتنشئة نظرية للأجيال الصاعدة هو عمل استراتيجي وليس مجرد ترف، لابد من نخبة جديدة عصرية لكن أصيلة ووطنية، لابد أن نمضي في طريق يجمع بين طلمبة الماء ومشروع الزراعة ومربط السفينة ودومة ود حامد، فالمكان يسع الجميع كما قال الطيب صالح. لا نريد حداثة بلا دومة ود حامد.
لقد سعدت بأثيوبيا وكم أرغب في أن أراها بجانب بلادي السودان ومعهم إرتريا والصومال وجيبوتي ومصر في نطاق جغرافي واسع متصالح ومتكامل ومتسالم، سموه القرن الأفريقي نحو المتوسط إن شئتم، فالتطور الطبيعي لكل فرع يربطه بالآخر تماما إلا لو نشطت قوى العزلة والإنغلاق المدفوعة من تلك الذئاب القديمة التي غيرت جلدها كما تعلم يا عزيزي، في هذا الاتجاه الذي نحب فإن استقرار السودان وسلامته وقوته ونجاته من المؤامرة هو جزء كبير من قيام هذا المشروع وللسودان مركز القلب فيه.
التقيت هناك بشباب سودانيين من أجمل الناس روحا وخلقا وشهامة وكرما وأخلاقا، محبون للحياة يأخذون منها ما يستطيعون لكنهم يعرفون كذلك الواجب والالتزام والعمل للغير من العائلة والأهل والأصدقاء ويحبون وطنهم ويرجون أن يروه بخير، عمر ونادر ومحمد وطارق وعبدالرحيم وغيرهم. أكرموني حد الخجل وأتمنى أن يأتي يوم قريب أستطيع فيه رد جميلهم، صاروا إخوة وبيننا عشرة ومحبة، ولا أنسى أيضا من التقيت بهم هناك الصديق الأثيوبي المكافح آبيل ومعه أسرته الكريمة وصديقته إيمي اللطيفة، دعوني لمطعم السمك الجميل والمرتب الذي يقومون عليه بكرم وحفاوة، أيضا ملتقى السودانيين في المطعم السوداني ومن تعرفت عليهم هناك.
والكثير مما يمكن قوله في وقت آخر.
،،الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ،،